سورة الرعد - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)}
{أَنزَلَ مِنَ السماء} أي من جهتها على ما هو المشاهد، وقيل: منها نفسها ولا تجوز في الكلام. واستدل له بآثار الله تعالى أعلم بصحتها، وقيل: انزل منها نفسها {مَاء} أي كثيرًا أو نوعًا منه وهو ماء المطر باعتبار أن مباديه منها وذلك لتأثير الإجرام الفلكية في تصاعد البخار فيتجوز في {مِنْ} {فَسَالَتْ} بذلك {أَوْدِيَةٌ} دافعة في مواقعه لا جميع الأودية إذ الأمطار لا تستوعب الأقطار وهو جمع واد.
قال أبو علي الفارسي: ولا يعلم أن فاعلًا جمع على افعلة، ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير. ثم ان وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر وأطيار. ووزن فعيل بجمع على أفعلة كجريب وأجربة، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع فاعل جمع فعيل فيقال: واد وأودية ويجمع فعيل فاعل يتيم وأيتام وشريف وأشراف اه. ونظير ذلك ناد وأندية وناج وأنجية قيل. ولا رابع لها. وفي شرح التسهيل ما يخالفه. والوادي الموضع الذي يسيل فيه المار بكثيرة، وبه سميت الفرجة بين الجبلين ويطلق على المار الجاري فيه، وهو اسم فاعل من ودي إذا سأل فإن أريد الأول فالإسناد مجازي لو الكلام على تقدير مضاف كما قال الإمام أي مياه أودية، وإن أريد الثاني وهو معنى مجازي من باب اطلاق اسم المحل على الحال فالإسناد حقيقي، وإيثار التمثيل بالأودية على الأنهار المستمرة الجريات لوضوح المماثلة بين شأنها وما مثل بها كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى: {بِقَدَرِهَا} أي قدارها الذي عينه الله تعالى واقتضته حكمته سبحانه في نفع الناس، أو قدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت محالها صغرًا وكبرًا لا بكونها مالئة لها منطبقة عليها بل جرد قلتها بصغرها المستلزم لقلة موارد الماء وكثرتها بكبرها المستدعى لكثرة الموارد، فإن موارد السيل الجاري في الوادي الصغير أقل من موارد السيل الجاري في الوادي الكبير، هذا إذا أريد بالأودية ما يسيل فيها أما أن أريد بها المعنى الحقيقي فالمعنى سالت مياهها بقدر تلك الأودية على نحو ما عرفته آنفًا أو يراد بضميرها مياهها بطريق الاستخدام ويراد بقدرها ما ذكر أولا من المعنيين قاله شيخ الإسلام، والجار والمجرور على ما نقل عن الحوفي متعلق بسالت، وقال أبو البقاء: إنه في موضع الصفة لأودية، وجوز أن يكون متعلقًا بأنزل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. والاشهب العقيلي. وأبو عمرو في رواية {بِقَدَرِهَا} بسكون الدال وهي لغة في ذلك.
{فاحتمل} أي حمل وجاء افتعل عنى المجرد كاقتدر وقدر {السيل} أي المار الجاري في تلك الأودية والتعريف لكونه معهودًا مذكورًا بقوله تعالى: {أَوْدِيَةٌ} ولم يجمع لأنه كما قال الراغب مصدر بحسب الأصل، وفي البحر أنه إنما عرف لأنه عنى به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان مكرة إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة كما كان لو صرح به نكرة، وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شرًا له أي الكذب، ولو جاء هنا مضمرًا لكانجائزًا عائدًا على المصدر المفهوم من سالت اه.
وأورد عليه أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث والمذكور المعرف عين كما علمت. وأجيب بأنه بطريق الاستخدام. ورد بأن الاستخدام أن يذكر لفظ عنى ويعاد عليه ضمير عنى آخر حقيقيًا كان أو مجازيًا وهذا ليس كذلك لأن الأول مصدر أي حدث في ضمن الفعل وهذا اسم عين ظاهر يتص بتلك فكيف يتصور فيه الاستخدام. نعم ما ذكروه أغلبي لا يختص بما ذكر فإن مثل الضمير اسم الإشارة وكذا الاسم الظاهر اه. وانظر هل يجوز أن يراد من السيل المعنى المصدري فلا يحتاج إلى حديث الاستخدام أم لا، وعلى الجواز يكون المعنى فاحتمل الماء المنزل من السماء بسبب السيل {زَبَدًا} هو الغثاء الذي يطرحه الوادي إذا جاش مائه واضطربت أمواجه على ما قاله أبو الحجاج الأعلم، وهو معنى قول ابن عيسى: إنه وضر الغليان وخبثه، قال الشاعر:
وما الفرات إذا جاشت غواربه *** ترمي أواذيه العبرين بالزبد
{رَّابِيًا} أي عاليًا منتفخًا فوق الماء، ووصف الزبد بذلك قيل: بيانًا لما أريد بالاحتمال المحتمل لكون المحمول غير طاف كالأشجار الثقيلة، وإنما لم يدفع ذلك بأن يقال فاحتمل السيل زبدًا فوقه للإيذان بأن تلك الفوقية مقتضى شأن الزبد لا من جهة المحتمل تحقيقًا للمماثلة بينه وبين ما مثل به من الباطن الذي شأنه الظهور في مبادىء الرأي من غير مداخلة في الحق {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} ابتداء جملة كما روي عن مجاهد معطوفة على الجملة الأولى لضرب مثل آخر أي ومن الذي يفعلون الايقاد {عَلَيْهِ} وضمير الجمع للناس أضمر مع عدم السبق لظهوره، وقرأ أكثر السبعة. وأبو جعفر. والأعرج. وشيبة {تُوقِدُونَ} بتاء الخطاب، والجار متعلق بما عنده وكذا قوله تعالى: {فِى النار} عند أبي البقاء. والحوفي، قال أبو علي: قد يوقد على الشيء وليس في النار كقوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِى ياهامان ياهامان عَلَى الطين} [القصص: 38] فإن الطين الذي أمر بالوقد عليه ليس في النار وإنما يصيبه لهبها، وقال مكي. وغيره: إن {فِى النار} متعلق حذوف وقع حالًا من الموصول أي كائنًا أو ثابتًا فيها، ومنعوا تعلقه بتوقدون قالوا: لأنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار والتعليق بذلك يتضمن تخصيص حال من حال أخرى، وقال أبو حيان: لو قلنا: إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار لجاز أيضًا التعليق على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقيل: إن زيادة ذلك للأشعار بالمبالغة في الاعتمال للاذابة وحصول الزبد؛ والمراد بالموصول نحو الذهب. والفضة. والحديد. والنحاس. والرصاص، وفي عدم ذكرها بأسمائها والعدول إلى وصفها بالايقاد عليها المشعر بضربها بالمطارق لأنه لأجله وبكونها كالحطب الخسيس تهاون بها إظهارًا لكبريائه جل شأنه على ما قيل، وهو لا ينافي كون ذلك ضرب مثل للحق لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون بذلك مع الإشارة إلى كونه مرغوبًا فيه منتفعًا به بقوله تعالى: {ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع} فوفي كل من المقامين حقه فما قيل: إن الحل على التهاون لا يناسب المقام لأن المقصود تمثيل الحق بها وتحقيرها لا يناسبه ساقط فتأمل.
ونصب {ابتغاء} على أنه مفعول له كما هو الظاهر، وقال الحوفي: إنه مصدر في موضع الحال أي مبتغين وطالبين اتخاذ حلية وهي ما يتزين ويتجمل به كالحلى المتخذ من الذهب والفضة واتخاذ متاع وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وغير ذلك من الفلزات {زَبَدٌ} خبث {مّثْلِهِ} أي مثل ما ذكر من زبد الماء في كونه رابيًا فوقه رفع {زَبَدٌ} على أنه مبتدأ خبره {مّمَّا تُوقِدُونَ} و{مِنْ} لابتداء الغاية دالة على مجرد كونه مبتدأ وناشئًا منه. واستظهر أبو حيان كونها للتبعيض لأن ذلك الزبد بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن ولم يرتضه بعض المحققين لإخلاله على ما قال بالتمثيل، وإنما لم يتعرص لإخراج ذلك من الأرض كما تعرض لعنوان انزال الماء من السماء لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل على ما ستعمله إن شاء الله تعالى كما أن للعنوان السابق دخلًا فيه بل له إخلال بذلك {كذلك} أي مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة: {يَضْرِبُ الله الحق والباطل} أي مثل الحق ومثل الباطل، والحذف للابناء على كمال التمثال بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل {فَأَمَّا الزبد} من كل من السيل وما يوقدون عليه، وأفردو لم يثن وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية فهما واحد باعتبار القدر المشترك {فَيَذْهَبُ} مرميًا به يقال: جفا الماء بالزبد إذا قذفه ورمى به، ويقال: أجفأ أيضًا عناه، وقال ابن الأنباري: جفاء أي متفرقًا من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وفرقته وجفأت الرجل صرعته، ويقال: جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف، وقرئ {جفالًا} باللام بدل الهمزة وهو عنى متفرقًا أيضًا أخذًا من جفلت الريح الغيم كفأت ونسبت هذه القراءة إلى رؤبة، قال ابن أبي حاتم: ولا يقرأ بقراءته لأنه كان يأكل الفأر يعني أنه كان إعرابيًا جافيًا، وعنه لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن، والنصب على الحالية {جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} أي من الماء الصافي الخالص من الغثاء والجوهر المعدني الخالص من الخبث {فَيَمْكُثُ} يبقى {فِى الارض} أما الماء فيبقى بعضه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون ونحوها؛ وأما الجوهر المعدني فيصاغ من بعضه أنواع الحلى ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث في الأرض ما هو أعم من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلبين فيها، وتغيير ترتيب اللف الواقع في الفذلكة الموافق للترتيب الواقع في التمثيل قيل لمراعاة الملاءمة بين حالتي الذهاب والبقاء وبين ذكرهما فإن المعتبر إنما هو بقاء الباقي بعد ذهاب الذاهب لا قبله، وقيل: النكتة في تقديم الزبد على ما ينفع أن الزبد هو الظاهر المنظور أو لا وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره، والآية من الجمع والتقسيم كما لا يخفى.
وحاصل الكلام في الآيتين أنه تعالى مثل الحق وهو القرآن العظيم عند الكثير في فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظة وحفظًا وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة مع كونه ممدا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلانًا مقدرًا قدار اقتضته الحكمة في إحياء الأرض وما عليها الباقي فيها حسا يدور عليه منافع الناس وفي كونه حلية تتحلى بها النفوس وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعًا يتمتع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات وتبقى منتفعًا بها مدة طويلة، ومثل الباطل الذي ابتلى به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما واخلال بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعًا.
وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم مثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أحادب اكتسبت الماء نفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به».
وقال ابن عطية: صدر الآية تنبيه على قدرة الله تعالى وإقامة الحجة على الكفرة فلما فرغ من ذلك جعله مثالًا للحق والباطل والإيمان والكفر واليقين في الشرع والشك فيه، وكأنه أراد بعطف الإيمان وما بعده التفسير للمراد بالحق والباطل. وعن ابن عباس جعل الزبد إشارة إلى الشك والخالص منه إشارة إلى اليقين {كذلك} أي مثل ذلك الضرب العجيب {يَضْرِبُ الله الامثال} في كل باب إظهار الكمال اللطف والعناية في الإرشاد، وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله سبحانه: {يَضْرِبُ الله الحق والباطل} إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعًا. وبعد ما بين تعالى شأنه شأن كل من الحق والباطل حالًا ومآلا أكمل بيان شرع في بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيبًا وترهيبًا فقال سبحانه:


{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)}
{لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ} إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فإن له لما فيه من تصوير المعقول بصورة المحسوس تأثيرًا بليغًا في تسخير والنفوس، والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه: {الحسنى} أي المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة. وغيره، وعن مجاهد الحياة الحسنى أي الطيبة التي لا يشوبها كدر أصلا. وعن ابن عباس أن المراد جزاء الكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله وفيه من البعد ما لا يخفى مبتدأ مؤخر {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} سبحانه وعاندوا الحق الجلي {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض} من أصناف الأموال {جَمِيعًا} بحيث لم يشذ منه شاذ في أقطارها أو مجموعًا غير متفرق بحسب الأزمان {وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أي بالمذكور مما في الأرض ومثله معه جميعًا ليتخلصوا عما بهم، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان، والموصول مبتدأ والجملة الشرطية خبره وهي على ما قيل واقعة موقع السوأي المقابلة للحسنى الواقعة في القرينة الأولى فكأنه قيل: وللذين لم يستجيبوا له السوأى. وتعقب بأن الشرطية وان دلت على سوء حالهم لكنها عزل عن القيام مقام لفظ السوأى مصحوبًا باللام الجارة الداخلة على الموصول أو ضميره وعليه يدور حصول المرام؛ فالذي ينبغي أن يعول عليه أن الواقع في تلك المقابلة سوء الحساب في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب} وحيث كان اسم الإشارة الواقع مبتدأ في هذه الجملة عبارة عن الموصول الواقع مبتدأ في الجملة السابقة كان خبره أعني الجملة الظرفية خبرًا عن الموصول في الحقيقة ومبينًا لإبهام مضمون الشرطية الواقعة خبرًا عنه أولا ولذلك ترك العطف فكأنه قيل: والذين لم يستجيبوا له لهم سوء الحساب وذلك في قوة أن يقال: وللذين لم يستجيبوا له سوء الحساب مع زيادة تأكيد فتم حسن المقابلة على أبلغ وجه وآكده. واعتذر بأنه يمكن أن يكون المراد أن {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض جَمِيعًا} إلى آخر الآية واقع موقع ذلك على معنى أن رعاية حسن المقابلة لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ الحسنى} تقتضي أن يقال: وللذين لم يستجيبوا له السوأى ولا يزاد على ذلك لكنه جيىء بقوله سبحانه: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ} إلخ بدل ما ذكر، ولعل في كلام الطيبي ما يستأنس به لذلك. وإلى اعتبار السوأى في المقابلة ذهب أيضًا صاحب الكشف قال: إن قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ} في مقابلة الحسنى يدل السوأى مع زيادة تصوير وتحسير، وأوثر الأجمال في الأول دلالة على أن جزاء المستجيبين لا يدخل تحت الوصف فتدبر، والمراد بسوء الحساب أي الحساب السيء على ما روي عن إبراهيم النخعي.
والحسن أن يحاسبوا بذنوبهم كلها لا يغفر لهم منها شيء وهو المعنى بالمناقشة. وعن ابن عباس هو أن يحاسبوا فلا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيآتهم {وَمَأْوَاهُمُ} أي مرجعهم {جَهَنَّمَ} بيان لمؤدي ما تقدم وفيه نوع تأييد لتفسير الحسنى بالجنة {وَبِئْسَ المهاد} أي المستقر، والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو جهنم.
وقال الزمخشري: اللام في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ استجابوا} متعلقة {يَضْرِبُ الله الامثال} [الرعد: 17] وقوله سبحانه: {الحسنى} صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله عز وجل: {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} معطوف على الموصول الأول، وقوله جل وعلا: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ} إلخ كلام مستأنف مسوق لبيان ما أعد لغير المستجيبين من العذاب، والمعنى كذلك يضرب الله تعالى الأمثال للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلا الفريقين انتهى، قال أبو حيان: والتفسير الأول أولى لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد ثل هذين، والله تعالى قد ضرب أمثالًا كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأن فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف هذا ولأن تقدير الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقًا وإنما هو نفى الاستجابة الحسنى والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقًا ولأنه حينئذ يكون {لَوْ أَنَّ لَهُمْ} إلخ كلامًا مفلتًا أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم الخ، ولو كان هناك حرف يربط {لَوْ} بما قبلها زال التفلت، وأيضًا أنه يوهم الإشراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلومًا: وتعقب بأنه لا كلام في أولوية التفسير الأول لكن كون ما ذكر وجهًا لها محل كلام إذ لا مقتضى في التفسير الثاني لتقييد الأمثال عمومًا ثل هذين، ألا ترى قوله تعالى: {كذلك} ثم إن فيه تفهيم ثواب المستجيبين أيضًا ألا يرى إلى القصر المستفاد من تقديم الظرف، وأيضًا قوله تعالى: {الحسنى} صفة كاشفة لا مفهوم لها فإن الاستجابة لله تعالى لا تكون إلا حسنى وكيف يكون قوله سبحانه: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ} إلخ مفلتًا وقد قالوا: إنه كلام مبتدأ لبيان حال المستجيبين يعنون انه استئناف بياني جواب للسؤال عن مآل حالهم ثم كيف يتوهم الإشتراك مع كون تخصيصه بالكافرين معلومًا انتهى. قال بعض المحققين: إن ما ذكر متوجه بحسب بادىء الرأي والنظرة الأولى أما إذا نظر بعين الانصاف بعد تسليم أن ذاك أولى وأقوى علم أن ما قاله أبو حيان وارد فإن قوله تعالى: {كذلك} يقتضي أن هذا شأنه وعادته عز شأنه في ضرب الأمثال فيقتضي أن ما جرت به العادة القرآنية مقيد بهؤلاء وليس كذلك، وما ذكره المتعقب ولو سلم فهو خلاف الظاهر.
وأما قوله: إن المستجيبين معلوم مما ذكره ففرق بين العلم ضمنًا والعلم صراحة، وأما أن الصفة مؤكدة أو لا مفهوم لها فخلاف الأصل أيضًا، وكون الجملة غير مرتبطة بما قبلها ظاهر، والسؤال عن حال أحد الفريقين مع ذكرهما ملبس، وعود الضمير على ما قبله مطلقًا هو المتبارد وما ذكر لا يدفع الإيهام. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل التفسير الأخير وحمل الأمثال فيه على الأمثال السابقة: وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل. نعم قد يستعمل في هذا المعنى أيضًا كما في قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا لّلَّذِينَ امرأة فِرْعَوْنَ إِذْ} [التحريم: 11] ونظائره، على أن بعض الأمثال المضروبة لا سيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروبًا لهم أيضًا بأن يجعل في حكم أن يقال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغير المستجيبين؛ ويؤيد هذا ما في الكشف حيث قال: إن جعل {لِلَّذِينَ استجابوا} من تتمة الأمثال لا من صلة يضرب متكلف لأنهما مثلا الحق والباطل بالاصالة ومن صلة {يَضْرِبُ} [الرعد: 17] أبعد لأن الأمثال إنما ضربت لمن يعقل.
ثم إن كون المراد بالأمثال الأمثال السابقة مبني على أن ما تقدم كان أمثالًا والمشهور أنه مثلان، نعم أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد، وبعد هذا كله لا شك في سلامة التفسير الأول من القيل والقال وانه الذي يستدعيه النظم الجليل لأن تمام حسن الفاصلة أن تكون كاسمها ولهذا انحط قول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى *** بصبح وما إلا صباح منك بأمثل
عن قول المتنبي:
إذا كان مدحًا فالنسيب المقدم *** أكل فصيح قال شعرًا متيم
وهو الذي فهمه السلف من الآية، ومن هنا كان أكثر الشيوخ يقفون على الأمثال ويتبدءون بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ استجابوا} وقال صاحب المرشد: إنه وقف تام والوقف على {الحسنى} حسن وكذا على {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} والعجب من الزمخشري كيف اختار خلاف ذلك مع وضوحه والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة: {المر} أي الذات الأحدية واسمه العليم واسمه الأعظم ومظهره الذي هو الرحمة {تِلْكَ ءايات} علامات {الكتاب} [الرعد: 1] الجامع الذي هو الوجود المطلق {الله الذى رَفَعَ السموات *بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي بغير عمد مرئية بل بعمد غير مرئية، وجعل الشيخ الأكبر قدس سره عمادها الإنسان الكامل، وقيل: النفس المجردة التي تحركها بواسطة النفس المنطبعة وهي قوة جسمانية سارية في جميع أجزاء الفلك لا يختص بها جزء دون جزء لبساطته وهي نزلة الخيال فينا وفيه ما فيه، وقيل: رفع سموات الأرواح بلا مادة تعمدها بل مجردة قائمة بنفسها {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} بالتأثير والتقويم، وقيل: عرش القلب بالتجلي {وَسَخَّرَ الشمس} شمس الروح بإدراك المعارف الكلية واستشراف الأنوار العالية {والقمر} قمر القلب بإدراك ما في العالمين والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات {كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى} وهو كما له بحسب الفطرة {يُدَبّرُ الامر} في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب المبادي {يُفَصّلُ الآيات} في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ} عند مشاهدة آيات التجليات {تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] عين اليقين.
وقال ابن عطاء: يدبر الأمر بالقضاء السابق ويفصل الآيات بأحكام الظاهر لعلكم توقنون أن الله تعالى الذي يجري تلك الأحوال لابد لكم من الرجوع إليه سبحانه: {وَهُوَ الذى مَدَّ الارض} أي أرض قلوب أوليائه ببسط أنوار المحبة {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} المعرفة لئلا تتزلزل بغلبة هيجان المواجيد وجعل فيها {أَنْهَارًا} من علوم الحقائق {وَمِن كُلّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} وهي ثمرات أشجار الحكم المتنوعة {يغشى وَهُوَ الذى} تجلى الجلال وتجلى الجمال {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3] في آيات الله تعالى، قال أبو عثمان: الفكر إراحة القلب من وساوس التدبير، وقيل: تصفيته لوارد الفوائد، وقيل: الإشارة في ذلك إلى مد أرض الجسد وجعل رواسي العظام فيها وأنهار العروق وثمرات الأخلاق من الجود والبخل والفجور والعفة والجبن والشجاعة والظلم والعدل وأمثالها والسواد والبياض والحرارة والبرودة والملاسة والخشونة ونحوها، وتغشية ليل ظلمة الجسمانيات نهار الروحانيات وفي ذلك آيات لقوم يتفكرون في صنع الله تعالى وتطابق عالميه الأصغر والأكبر {وَفِى الارض قِطَعٌ متجاورات} فقلوب المحبين مجاورة لقلوب المشتاقين وهي لقول العاشقين وهي لقلوب الوالهين وهي لقلوب الهائمين وهي لقلوب العارفين وهي لقلوب الموحدين، وقيل: في أرض القلوب قطع متجاورات قطع النفوس وقطع الأرواح وقطع الأسرار وقطع العقول والأولى تنبت شوك الشهوات والثانية زهر المعارف والثالثة نبات كواشف الأنوار والرابعة أشجار نور العلم وفيها {جنات مّن أعناب} أي أعناب العشق {وَزَرْعٌ} أي زرع دقائق المعرفة {وَنَخِيلٌ} أي نخل الإيمان {صنوان} في مقام الفرق {وَنَخِيلٌ صنوان} في مقام الجمع، وقيل: صنوان إيمان مع شهود وغير صنوان إيمان بدونه {يسقى اء واحد} وهو التجلي الذي يقتضيه الجود المطلق {وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الاكل} [الرعد: 4] في الطعم الروحاني، وقيل: أشير أيضًا إلى أن في أرض الجسد قطعًا متجاورات من العظم واللحم والشحم والعصب وجنات من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهوانية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة والعشق وزرع القوى الإنسانية ونخيل سائر الحواس الظاهرة والباطنة صنوان كالعينين والاذنين وغير صنوان كاللسان وآلة الفكر والوهم يسقى اء واحد وهو ماء الحياة ونفضل بعضها على بعض في أكل الإدراكات والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة على العفة وهكذا {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} بعد ظهور الآيات {مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} ولم يعلموا أن القادر على ذلك قادر على أن يحيي الموتى.
وقيل: إن منشأ التعجب أنهم أنكروا الخلق الجديد يوم القيامة مع أن الإنسان في كل ساعة في خلق آخر جديد بل العالم بأمره في كل لحظة يتجدد بتبدل الهيآت والأحوال والأوضاع والصور، وإلى كون العالم كل لحظة في خلق جيديد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره فعنده الجوهر وكذا العرض لا يبقى زمانين كما أن العرض عند الأشعري كذلك، وهذا عند الشيخ قدس سره مبني على أن الجواهر والإعراض كلها شؤنه تعالى عما يقوله الظالمون علوًا كبيرًا وهو سبحانه كل يوم أي وقت في شأن، وأكثر الناس ينكرون على الأشعري قوله بتجدد الاعراض، والشيخ قدس سره زاد في الشطرنج جملًا ولا يكاد يدرك ما يقوله بالدليل بل هو موقوف على الكشف والشهود، وقد اغتر كثير من الناس بظاهر كلامه فاعتقدوه من غير تدبر فضلوا وأضلوا {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} فلم يعرفوا عظمته سبحانه: {وَأُوْلَئِكَ الاغلال فِى أعناقهم} فلا يقدرون أن يرفعوا رؤوسهم المنتكسة إلى النظر في الآيات {وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} [الرعد: 5] لعظم ما أتوا به {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} ناسبة استعدادهم للشر {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} عقوبة أمثالهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} أنفسهم باكتساب الأمور الحاجبة لهم عن النور ولم ترسخ فيهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} [الرعد: 6] لمن رسخت فيه {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} لعمى بصائرهم عن مشاهدة الآيات الشاهدة بالنبوة {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ} تشهد له صلى الله عليه وسلم بذلك {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ} ما عليك إلا انذارهم لا هدايتهم {وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] هو الله تعالى، وقيل: لكل طائفة شيخ يعرفهم طريق الحق {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} فيعلم ما تحمل أنثى النفس من ولد الكمال أي ما في قوة كل استعداد {وَمَا تَغِيضُ الارحام} أي تنقص أرحام الاستعداد بترك النفس وهواها {وَمَا تَزْدَادُ} بالتزكية وبركة الصحبة {وَكُلَّ شىْء} من الكمالات {عِندَهُ} سبحانه: {قْدَارٍ} [الرعد: 8] معين على حسب القابلية {سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول} في مكمن استعداده {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} بإبرازه إلى الفعل {وَمَنْ هو مستخف بالليل} ظلمة ظلمة نفسه {وَسَارِبٌ بالنهار} [الرعد: 10] بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح {لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} إشارة إلى سوابق الرحمة الحافظة له من خاطفات الغضب أو الإمدادات الملكوتية الحافظة له من جن القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية وإهلاكها أياه {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعم الظاهرة أو الباطنة {حتى يُغَيّرُواْ مّمَّا بِأَنفُسِهِمْ} من الاستعداد وقوة القبول؛ قال النصر أبادي: إن هذا الحكم عام لكن مناقشة الخواص فوقة مناقشة العوام، وعن بعض السلف أنه قال: إن الفأرة مزقت خفى وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته وإلا لما سلطها على وتمثل بقول الشاعر:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلى *** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
{وإذا أراد الله بقومٍ سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} [الرعد: 11] إذ الكل تحت قهره سبحانه، قال القاسم: إذا أراد الله تعالى هلاك قوم حسن موارده في أعينهم حتى يمشون إليها بتدبيرهم وأرجلهم، ولله تعالى در من قال:
إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يجنى عليه اجتهاده
{هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق} أي برق لوامع الأنوار القدسية {خَوْفًا} خائفين من سرعة انقضائه أو بطء رجوعه {وَطَمَعًا} طامعين في ثباته أو سرعة رجوعه {وَيُنْشِىء السحاب الثقال} [الرعد: 12] برق المكاشف وينشيء للعارفين سحاب العظمة الثقال اء الهيبة فيمطر عليهم ما يحييهم به الحياة التي لا تشبهها حياة، وأنشدوا للشبلى:
أظلت علينا منك يومًا غمامة *** أضاءت لنا رقًا وأبطا رشاشها
فلا غيمها يصحو فييأس طامع *** ولا غيثها يأتي فيروى عطاشها
وعن بعضهم أن البرق إشارة إلى التجليات البرقية التي تحصل لأرباب الأحوال وأشهر التجليات في تشبيهه بالبرق التجلي الذاتي، وأنشدوا:
ما كان ما أوليت من وصلنا *** إلا سراجًا لاح ثم انطفى
وذكر الإمام الرباني قدس سره في المكوتبات أن التجلي الذاتي دائمي للكاملين من أهل الطريقة النقشبندية لا برقى وأطال الكلام في ذلك مخالفًا لكبار السادة الصوفية كالشيخ محيى الدين قدس سه. وغيره، والحق أن ما ذكره من التجلي الذاتي ليس هو الذي ذكروا أنه برقى كما لا يخفى على من راجع كلامه وكلامهم {وَيُسَبّحُ الرعد} أي رعد سطوة التجليات الجلالية ويمجد الله تعالى عما يتصوره العقل ملتبسًا {بِحَمْدِهِ} وإثبات ما ينبغي له عن شأنه {والملئكة} وتسبح ملائكة القوى الروحانية {مِنْ خِيفَتِهِ} من هيبتة جلاله جل جلاله {وَيُرْسِلُ الصواعق} هي صواعق السبحات الإلهية عند تجلي القهر الحقيقي المتضمن للطف الكلى {فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء} فيحرقه عن بقية نفسه، وفي الخبر: «إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وقال ابن الزنجاني: الرعد صعقات الملائكة والبرق ذفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم، وجعل الزمخشري هذا من بدع المتصوفة، وكأني بك تقول: إن أكثر ما ذكر في باب الإشارة من هذا الكتاب من هذا القبيل.
والجواب إنا لا ندعي إلا الإشارة وأما أن ذلك مدلول اللفظ أو مراد الله تعالى فمعاذ الله تعالى من أن يمر بفكري، واعتقاد ذلك هو الضلال البعيد والجهل الذي ليس عليه مزيد، وقد نص المحققون من الصوفية على أن معتقد ذلك كافر والعياذ بالله تعالى، ولعلك تقول: كان الأولى مع هذا ترك ذلك. فنقول: قد ذكر مثله من هو خير منا والوجه في ذكره غير خفي عليك لو أنصفت {وَهُمْ يجادلون فِى الله} بالتفكر في ذاته والنظر للوقوف على حقيقة صفاته {وَهُوَ} سبحانه: {شَدِيدُ المحال} [الرعد: 13] في دفع الأفكار والأنظار عن حرم ذاته وحمى صفاته جل جلاله:
هيهات أن تصطاد عنقاء البقا *** بلعابهن عناكب الأفكار
{لَهُ دَعْوَةُ الحق} أي الحقة الحقيقة بالإجابة لا لغيره سبحانه: {والذين يَدْعُونَ} الأصنام {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ} أي إلا استجابة كاستجابة من ذكر لأن ما يدعونه عزل عن القدرة {وَمَا دُعَاء الكافرين} المحجوبين {إِلاَّ فِى ضلال} [الرعد: 14] أي ضياع لأنهم لا يدعون الإله الحق وإنما يدعون إلها توهموه ونحتوه في خيالهم {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} ينقاد {مَن فِى السموات والارض} من الحقائق الروحانيات {طَوْعًا وَكَرْهًا} شاؤا أم أبوا {وظلالهم} هياكلهم {بالغدو والاصال} [الرعد: 15] أي دائمًا؛ وقيل: يسجد من في السموات وهو الروح والعقل والقلب وسجودهم طوعًا ومن في الأرض النفس وقواها وسجودهم كرهًا.
وقيل: الساجدون طوعًا أهل الكشف والشهود والساجدون كرهًا أهل النظر والاستدلال {أَنزَلَ مِنَ السماء} من سماء روح القدس {مَاء} أي ماء العلم {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} أي أودية القلوب {بِقَدَرِهَا} بقدر استعدادها {فاحتمل السيل زَبَدًا} من خبث صفات أرض النفس {رَّابِيًا} طافيًا على ذلك {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار} نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق {ابتغاء حِلْيَةٍ} طلب زينة النفس لكونها كمالات لها {أَوْ متاع} من الفضال الخلقية التي تحصل بسببها فإنها مما تتمتع به النفس ما {زَبَدٌ} خبث {مّثْلِهِ} كالنظر إليها ورؤيتها والإعجاب بها وسائر ما يعد من آفات النفس {فأما الزبد فيذهب جفاء} منفيًا بالعلم {وأما ما ينفع الناس} من المعاني الحقة والفضائل الخالصة {فيمكث في الأرض} [الرعد: 17] أرض النفس، وقال بعضهم: أنه تعالى شبه ما ينزل من مياه بحار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إلى قلوب الموحدين والعارفين والمكاشفين والمريدين بما ينزل من السماء إلى الأودية، فكما تحمل الأودية حسب اختلافها ماء المطر تحمل تلك القلوب مياه هاتيك البحار حسب اختلاف حواصلها وأقدار استعداداتها في المحبة والمعرفة والتوحيد، وكما أن قطرات الأمطار تكون في الأودية سيلًا فيحتمل السيل زبدًا وحثالة وما يكون مانعًا من الجريان يكون تواتر أنوار الحق سبحانه سيل المعارف والكشوفات فيسيل في أودية القلوب فيحتمل من أوصاف البشرية وما دون الحق الذي يمنع القلوب من رؤية الغيوب ما يحتمله فيذهب جفاء فتصير حينئذ مقدسة عن زبد الرياء والسمعة والنفاق والخواطر المذمومة وتبقى سائحة في أنوار الأزل والأبد بلا مانع من العرش إلى الثرى، وشبه سبحانه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح فاتيحها من الغيب بجواهر الأرض والفضة وغيرهما إذا أذيبا للانتفاع بهما وبين تعالى أن لهما زبدًا مثل زبد السيل وأنه يذهب ويمكث أصلهما الصافي، فكذلك أعمال الظاهر والباطن تدخل في بودقة الإخلاص ويوقد عليهما نيران الامتحان فيذهب ما فيه حظ النفس ويبقى ما هو خالص لله تعالى، وهكذا الخواطر يبقى منها خاطر الحق ويضمحل سريعًا خاطر الباطل، وعن بعضهم القلوب أوعية وفيها أودية فقلب يسيل فيه ماء التوبة وقلب يسيل فيه ماء الرحمة وقلب يسيل فيه ماء الخوف وقلب يسيل فيه ماء الرجاء وقلب يسيل فيه ماء المعرفة وقلب يسيل فيه ماء الإنس وكل ماء من هذه المياه ينبت في القلب نوعًا من القربة والقرب من الله عز وجل ومن القلوب ما حرم ذلك والعياذ بالله تعالى، وقال ابن عطية: روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء} إلخ يريد بالماء الشرع والدين وبالأودية القلوب ومعنى سيلانها بقدرها أخذ النبيل بحظه والبليد بحظه، ثم قال: وهذا قول لا يصح والله تعالى أعلم عن ابن عباس لأنه ينحو إلى قول أصحاب الرموز، وقد تامسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق، وفيه إخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير داع إلى ذلك، وإن صح ذلك عن ابن عباس فيقال فيه: إنما قصد رضي الله تعالى عنه أن قوله تعالى: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} [الرعد: 17] معناه الحق الذي يتقرر في القلوب والباطل الذي يعتريها اه ونحن نقول: إن صح ذلك فمقصود الحبر منه الإشارة وإن كان يريد غير ظاهر فيه، وحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة أشد الناس على أهل الرموز القائلين بأن الظاهر ليس مراد الله تعالى كما لا يخفى على متتبعي كلامه، وسمعت من بعض الناس أن أهل الكيمياء تكلموا في هذه الآية على ما يوافق غرضهم ولم أقف على ذلك {للذين استجابوا لربهم} بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس {الحسنى} المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء {والذين لم يستجيبوا له} تعالى وبقوا في الرذائل البشرية والكدورات الطبيعية {لو أن لهم ما في الأرض} الجهة السفلية من الأموال والأسباب التي انجذبوا إليها بالمحبة فأهلكوا أنفسهم بها {ومثله معه لافتداو به} ما ينالهم من الحجاب والحرمان {أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب} لوقوفهم مع الأفعال في مقام النفس {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} الحرمان {وَبِئْسَ المهاد} [الرعد: 18] جهنم والعياذ بالله تعالى ونسأله العفو والعافية.


{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)}
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا إِلَيْكَ مِن رَبّكَ} من القرآن الذي مثل بالماء المنزل من السماء والإبريز الخالص في المنفعة والجدوى هو {الحق} الذي لا حق وراءه أو الحق الذي أشير إليه بالأمثال المضروبة فيستجيب له {كَمَنْ هُوَ أعمى} عمى القلب لا يدركه ولا يقدر قدره وهو هو فيبقى حائرًا في ظلمات الجهل وغياهب الضلال ولا يتذكر بما ضرب من الأمثال، والمراد كمن لا يعلم ذلك إلا أنه أريد زيادة تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى، والهمزة للإنكار وإيراد الفاء بعدها لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المماثلة على ظهور حال كل منهما بما ضرب من الأمثال وما بين من المصير والمآل كأنه قيل: أبعد ما بين حال كل من الفريقين وما لهما يتوهم المماثلة بينهما.
وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما {أَوْ مِن يَعْلَمْ} بالواو مكانًا الفاء {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} بما ذكر من المذكرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائي {أُوْلُواْ الالباب} أي العقول الخالصة المبرأة من متابعة الألف ومعارضة الوهم، فاللب أخص من العقل وهو الذي ذهب إليه الراغب، وقيل: هما مترادفات والقصد بما ذكر دفع ما يتوهم من أن الكفار عقلاء مع أنهم غير متذكرين ولو نزلوا منزلة المجانين حسن ذلك.
والآية على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حمزة رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل وقيل: في عمر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل، وقيل: في عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل، وقد أشرنا إلى وجه اتصالها بما قبلها، والعلامة الطيبي بعد أن قرر وجه الاتصال بأن {فَمَنْ يَعْلَمْ} عطف على جملة {لِلَّذِينَ استجابوا} [الرعد: 8] إلخ والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه، وذكر من معنى الآية على ذلك ما ذكر قال: ثم إنك إذا أمعنت النظر وجدتها متصلة بفاتحة السورة يعني بقوله تعالى: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1] وهو كما ترى.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9